الرائحة المقدّسة
ألقيت لوحة المفاتيح جانبا فنهضت عن جهاز حاسوبي وهرعت مسرعا لشباك الغرفة المجاورة لغرفتي وذلك كان في وقت متأخر أي ما يقارب الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ، وذلك حين سمعت صوت أختي حين استيقظت من نومها وهي تخاطب أخي الصغير " في ريحة .. شامها ؟ هاي بتذكرها يوم نزلنا ع الضفة " الأمر يبدو طبيعيا لكم ، لكني حين هرعت أشتم الرائحة أصبت بصدمة رهيبة ، وصدقا أصابني الخوف لمجرد أني شعرت بقدسية هذه الرائحة ، وفي الآن نفسه أصابني الارتياح ، فدارت ببالي آلاف التساؤلات ، تلك الرائحة أنا أعرفها حقّ المعرفة ، أختي التي هي الآن في الصف العاشر تذكرت تلك الرائحة التي اشتمتها حين زارت فلسطين لمرة واحدة في حياتها ، وكانت زيارتها لها قبل دخولها للمدرسة ومن ذلك الحين لم تدخلها ! ما يقارب العشر سنوات لذكرى اشتمامها لتلك الرائحة فكيف تذكرتها وهي لم تزر فلسطين إلا مرة واحدة .
أنا زرت فلسطين ثلاث مرات مع العلم بأنني فلسطيني الجنسية وهناك هي أرضي ووطني ، إلا أنني لم أعش فيها ، حين زرتها السنة الماضية لفتت انتباهي تلك الرائحة ، شعرت بطيبها وبتميزها ، كنت أشتمها في كلّ ناحية من نواحي فلسطين التي مررت فيها ، وجهت السؤال لأقربائي الذي يعيشون هناك حول تلك الرائحة ، فأجابوني بأنه لا توجد أي رائحة !
أدركت تماما بأن أهل فلسطين اللذين يعيشون فيها لا يميزون تلك الرائحة لأنهم في الأصل ولدوا على تلك الرائحة وتربوا عليها ، وذلك وصلت إليه بعد أن عرفت بأن أختي الأخرى التي قدمت معي لفلسطين قد اشتمت تلك الرائحة ، فقد جاءتني تقول لي بأن رائحة غريبة تشتمها في هذا المكان ، تقصد بهذا المكان فلسطين .
حين وقفت على الشباك أغمضت عيناي وأطرقت أصغي لعزف تلك الرائحة في أنفي ، كان الجو في ذلك اليوم صيفيا لطيفا ، ونسائم الهواء كانت تهب بشدّة ، أضواء القدس كانت ظاهرة للعيان كما تظهر في غالب الأيام من منطقتنا عندما يكون الجو صافيا ، أجل فقد شعرت حين اشتممت تلك الرائحة بأنني جالس في فلسطين ، الأحاسيس والمشاهد نفسها تبادرت لمخيلتي ، أحسست بروعة الجلوس والمكوث في وطني المسلوب ، سررت كثيرا لأنني وجدت شيئا من رائحة بلادي وما الأجمل من أن يكون هذا الشيء هو الرائحة ذاتها ! حقا إني سعيد ففي صباح تلك الليلة استيقظت مبتسما فرحا على عكس عادتي .
لكني في الحقيقة لا أعرف مصدر تلك الرائحة ، لا أدري هل هي رائحة الهواء أم رائحة التراب الطاهر أم رائحتها كلها بما فيها ، والسؤال الذي تبادر لذهني متأخرا لأن الرائحة سرقت منّي عقلي ألا وهو كيف وصلت هذه الرائحة إلينا ؟
بقلم : إياد أبو عرقوب
بتاريخ : 29 / 7 / 2010
1 التعليقات:
سبحان الله
إرسال تعليق