وعلقتا جنبا إلى جنب
كتبت بتاريخ : 26 / 12 / 2009
حلمه أن يكون طبيبا، عندما يرى طبيبا يتمنى لبس ردائه وأخذ سماعته ووضعها على أذنيه ، كأي طفل يعيش حياتهفإنه حمل الأحلام على أجنحة مخيلته ، فسار بها دربه الطويل ، فاجتهد . . كان دائمايرى في نفسه الصورة لطبيب المستقبل ، ينظر للحياة على أنها فرصة نحو إثبات الكفاءةوالقدرة ، لذا فهو منذ طفولته كان المميز بين أبناء سنه ، متعدد الميول ، يحب أن يغرفمن ينابيع العلم العذبة ، يبسط الأمل على امتداد دربه الواسع ، لا يعطي لليأس فرصةفي شق طريقها نحوه ، فعنوانه الحياة كما يحب ، وبأحلامه وطموحاته تغنى بقيثارته وأسمعالقلوب همس حكايته .
يعيشفي قرية ريفية في إحدى المدن ، أكمل دراسته الابتدائية في مدرسة القرية ، ثم ما لبثأن أنهى دراسته فيها حتى تقدم لإحدى المدارس الثانوية التي تجاور قريته ، كانت الثانويةالعامة فترة عصيبة عليه في تاريخ حياته ، لذا فإنه يتحتم عليها صدور حكم تام حول مصيرحياته ، وماذا سيكون ، كان عليه أن يقدم من الجهد والعناء ما يناسب إرادته في أن يكون، إرادته تقتضي عليه العناء والكد من أجل تحقيق هدفه ، فبالفعل . . كان يدرس ويثابردون شعوره بالكلل والملل ، وإن حصل ذلك فإنه يتخيل موقفه حين يكون واقفا على منصة المسرحيتلقى شهادته الصادرة عن كلية الطب في حفل تخرجه من الجامعة ، فتزيده هذه الأحلام إصراراوتصميما على مقاومة جميع المعيقات التي تواجهه والتصدي لها .
جاءهذا اليوم ، اليوم الذي انتظره منذ زمن بعيد ، اليوم الذي يعتبر النافذة المفتوحة أمامهليعبر منها لما يريد ، حين عاد كان بيده صحيفة ، فوضعها على الطاولة ودموعه تترقرقمن بعيد ، ظن المتواجدون بأنه قد أخفق ، وعليه أن يعيد سنته الدراسية كاملة ، لكن مالم يكن أحد يعرفه ولم يكن في الحسبان هو أنه لم ينجح فحسب ، بل انه أحرز المرتبة الأولىعلى المدارس الخمس التي تتبع لواء مديريتهم ، كانت صدمة عارمة ظهرت جليا على وجوه أفرادعائلته وأبناء قريته ، ودموعه كانت دموع فرحة لم يتوقع أن يصل إليها هذا الفتى في يوممن الأيام ، فقد ظن الحصول على شيء قليل مما حصل عليه ، لكنه كان مثلا جديرا في حصولهعلى مرتبته هذه .
والآنفقد بدأ دربا جديدا في مشوار حياته ، فقد بدأت حياته تأخذ مسارا جديدا يتطلب منه المزيدمن العمل وتحمل المسؤولية ، الآن تحول من فتى إلى شاب ناضج يسعى نحو إدراك مستقبلهوبناءه ، طفولته كانت تنبئ بولادة شخص مبدع وها هي بوادر الخير تظهر فيه .
تقدملإحدى الجامعات التي في مدينتهم ، أراد الطبّ وها هو يسعى في طلبه ، أسعفه الحظ فحصلعلى مقعد بين أطباء المستقبل ، شعوره لا يوصف . . فقد حصل أخيرا وبعد عنائه الطويلعلى مقعد في كلية الطب ، وها هو ينظر إليه نظرة مفعمة بالحيوية تفيض منه بحار الأملوالشغف في أن يلبس المريول الأبيض الذي حلم به طيلة سنين طفولته وشبابه .
أمضىالفصل الأول له في دراسته الجامعية ، وكان بصدد بدء امتحاناته الجامعية ، وفي يوم منالأيام . . بينما هو يجهز نفسه للخروج من المحاضرة إذ بأحد الأساتذة الذين يعلموه قدناداه . . فأجاب نداءه فذهب إليه ، كان الأستاذ قد لاحظ تميز هذا الفتى في أدائه فيالمحاضرات فقال له : " انظر يا بني ، هذا المقعد هو حياتك ودربك . . أحلامك معلقةبه ، متى اجتزته فتحت الحياة أمامك ، لذا فاحرص على أن تكون المجتهد الأول في هذا العلم. . إنه علم من أجمل العلوم . . أفضل العلوم الإنسانية مرتبة ، وهو ينتظر أشخاصا مثلك" .
عندماسمع هذه الكلمات شعر بالفرح ، فهذه الكلمات بالنسبة إليه أول طريق النجاح ، فزادتهثقة في نفسه ، قدم امتحانه الفصلي الأول وقد أحرز العلامات العليا ، والداه فخورانجدا بما يؤول إليه ابنهما .
يومجديد في سنته الرابعة في الجامعة ، يلبس ثيابه ، ويرتب كتبه استعدادا للذهاب لمحاضرته، يتوجه لموقف الحافلات ليستقل احداها كي يذهب بها إلى جامعته ، وبينما هو متجه لركوبالحافلة فإذ به يصطدم بفتاة تود ركوب الحافلة فتناثرت كتبها وأوراقها أرضا . . فقامورفع لها الكتب . . وعندما رفع رأسه أتت عينه في عينها . . حصل له ارباك عندما نظرفي عينيها . . قدم لها كتبها وقال لها " عفوا . . لم أنتبه . . أنا متأسف" فردت عليه " لا مشكلة . . بسيطة لم يحدث شي " ، فصعدا الحافلة ، عيونهلم تفارق هذه الفتاة . . لاحظ بأنها طالبة جامعية تحمل كتابا في الهندسة ، ويبدو أنهقد اعجب بها وسرقت قلبه من نظرة واحدة ، لحسن الحظ حينما نزل من الحافلة رأى هذه الفتاةتنزل من الحافلة ، فشعر بالسعادة لأن هذه الفتاة تدرس في نفس الجامعة التي يدرس هوفيها ، أراد التحدث معها لكنه وجد لسانه قد عقد عن الكلام فتوجه لقاعة محاضرته .
لمتغب صورة هذه الفتاة عن مخيلته ، ولا ذلك الموقف الذي جمعه بها ، وفي كل ليلة يعيشذاك الموقف في مخيلته . . يكرره المرة تلو الأخرى ، عزم على أن يتحدث معها حين يراهامرة أخرى .
وفييوم آخر . . يتنزه في ساحة الجامعة . . وقدلمحها من بعيد ، أصابه الخوف حين رآها . . لكنه عزم على أن يتحدث معها . . فتوجه إليها ، وقف أمامها ونظر في عينيها ،حاول أن يصغي لما تقوله عيونها ، نظرت إليه أيضا وتذكرت هذا الشاب . . نعم هذا هو. . هذا من اصطدمت به في تلك المرة حين ركبت الحافلة ، لاحظ وجهها الذي ازداد احمراراحين حدقت في عينيه ، فقد أصابها الخجل ، هو يعلم أن هذه الإيماءات ترسل له رسالة منهذه الفتاة تخبره بأنها تحبه وربما يكون فارس أحلامها المنتظر ، تحدث معها . . وأخذهماالكلام . . فتعرفا على بعضهما . . عرف أنها تدرس الهندسة في هذه الجامعة تحت تخصص الهندسةالمعمارية ، وأنه بقي لها سنة واحدة وتنهي دراستها وتحصل على الشهادة .
أصبحكل يوم يراها ويتحدث معها ، كان يكره يوم الخميس لأن عليه أن ينتظر الدوام في الأسبوعالمقبل دون ان يشاهد هذه الفتاة .
وبعدشهرين استطاع أن يصارحها بسره الدفين في قلبه ، أخبرها بأنه يحبها ، لكنه كان يخشىشيئا ، فهي بعد سنة سوف تتخرج وتشق طريقها ، وهو عندما تتخرج هذه الفتاة يكون بقي لهسنتان من الزمن في الجامعة ، فهل ستستطيع انتظاره حتى ينهي دراسته ومن ثم يؤمن بعضالنقود لبناء مستقبله ، أسئلة كثيرة جالت في خاطره تطرح حزم الأسئلة ، والتي لا تجدالإجابة عنها .
مرتسنة . . والآن هذه الفتاة تصعد لتأخذ شهادتها . . مهندسة مبدعة في تخصصها ، حققت أحلامها، والآن انظر إليها ترفع شهادتها بفخر ، حلمت وحصلت ، والآن ترى أنها تنتظر حلما آخرقيد أن يكون في الحوزة .
يقتربمنها الشاب وينظر في عينيها ، فيقول " هل ستنتظرينني ؟ بقي لي سنتان ، وبعدهاسوف أبحث عن عمل أتوظف فيه لأكون نفسي ، هل ستكونين معي لذاك الموعد ؟ أليس صعبا عليكهذا ؟ "
فتجيبه: " شهادتي هذه التي حصلت عليها لن تكون جميلة وأفتخر بها حتى أراها معلقة بجانبشهادتك يا أيها الطبيب . . اخترك من بين جميع الشبان لأنني أحببتك . . هل تراني سأتركك؟ "
شعر بالفرحوالسعادة حين سمع كلماتها وأضاف لها : " إني فخور بك . . أشكر ربي لأن هداني لك. . لا أدري كيف ستكون حياتي لو أنني لم أعرفك . . ستصبحين من أشهر المهندسات بإذنالله . . لقد أعطيتني الأمل لأستمر في دربي الذي بدأته . . حلمي أن أكون طبيبا . .وبك أيضا تكون الأحلام أجمل "
مرتالسنتان . . أنظر إليه . . إنه يصعد المنصة . . ليكرم يوم تخرجه . . لقد أخذ الدرجةالأولى . . وها هو يمسك شهادته . . حين ألقى عينه عليها تذكر كل شيء . . طفولته .. شبابه . . أحلامه . . جده ومثابرته . . وعده لفتاته . . تذكر يوم أمسك بسماعة الطبيبووضعها على أذنيه حين كان طفلا صغيرا . . كان يحاول أن يمسك دمعته لكنه لم يفلح ، فدمعتهخرجت تصارح الجميع ، تصارحهم بفرحته وفخره بنفسه ، أجل هي دموع الفرحة . . دموع النجاح. . دموع اليوم الذي انتظره منذ أن كان طفلا . . لتعلن للجميع عن ولادة الطبيب الذيبقي صامدا نحو حلمه ، والآن هو مستعد لأن يلبس المريول الأبيض ويبادر العمل فيه .
تمتعينه في أفضل مستشفيات المدينة بمرتب جيد ، وبعد سنة تقدم والداه لمنزل الفتاة التيأحبها ليطلباها ، فأعلنت الخطوبة ، وتم تحديد الزفاف في بداية الربيع ، أحلامه شارفتأن تصبح حقيقة . . وجاء الربيع . . الأزهار تفتحت . . العشب نما . . البسمة جلية علىمحيا القرية . . زفا بأجمل المواكب . . أعطاها عهدا وأوفا به . . وأخبرته أنها ستنتظرهوبقيت تنتظر حتى أتى .
أنجباطفلا يشبه والديه . . عسا أن يكون مثلهما . . ليحكي لنا حكايته ويطربنا بها ، وغداطبيبنا من أشهر أطباء البلد في مجال الجراحة ، الآن يسترجع سيرة حياته وكيف كان متأكدامن أنه سيحقق أحلامه في يوم من الأيام ، فلا بدّ للحلم أن يصبح حقيقة ، ولابدّ للمجتهدأن يصل لأحلامه طالما بقي خلفها يسعى لتحقيقها ، وكلما ينهض من نومه صباحا يرى شهادتهالمعلقة بجوار شهادة زوجته حبيبة دربه وأم طفله فيبتسم ؛ لأنهما ورقتان تختصران ألفحكاية ودرب ، شقت طريقها ورويت بالأحلام والعزم والأمل . . فها هي الأحلام أورقت وهاهي ثمارها ناضجة .
0 التعليقات:
إرسال تعليق