انسحاب بصمت
كتبت بتاريخ : 9 / 1 / 2010
حينرآها لأول مرة سرقت قلبه ، سافرت كل أحاسيسه وكل ذرة من وجدانه نحوها ، أحبها كأي شخصيرى فتاة ويعجب بها ، أصبح متيما كثيرا بها ، لدرجة أنه كان دائما يحاول أن يراها أكثرقدر ممكن من المرات ، بدأت الحياة تأخذ مجرى جديدا بالنسبة له ، لم يعد ذاك الفتى المتهورالمعهود ، أصبح في كل يوم يتعلم شيئا جديدا يضيفه لقواميس حياته ، ويتحول لشاب أكثررزانة ، وكيف هذا وهو يتعلم من أعظم مدرسة عرفها التاريخ . . مدرسة الحب !
حينينظر إليها كل صباح من بعيد يشعر بسعادة لها نوعها الخاص ، إنها السعادة التي تصيبهحين يرى من دقت أبواب قلبه ، لكن سرعان ما يحزن حين يرى أنه لا يمتلك الجرأة لأن يتحدثمعها ، كل يوم يعقد العزم على التحدث معها لكن حين يقف أمامها ينتابه الخوف المعروف. . إن كان في لسانه بعض الحروف يشكل بها بعض الكلمات ليقولها فإنها تتبعثر كلها .. ولا يبقى منها أي شيء ، النظرات تتحول باتجاه الأرض ، حتى الوجه تظهر عليه ملامحالخجل ، هذا ما يبدو ظاهريا . . لكن الأسوء هو ما يشعر به داخل نفسه . . التلبك .. الخوف . . الخجل . . الكثير والكثير . . .
لكنسرعان ما ينتابه الاحباط ، فيميل بظهره وعيونه حزينة ، فهي عاجزة عن اخبار من تحب بحبهاالعظيم له ، كلما خطا خطوة يلتفت وراءه حتى يراها بينما تتوارا عن أنظار عينيه ، يعودحزينا ليفكر ماذا سيفعل غدا ، لكن يبدو بأنها تخطيطات فاشلة نحو مشروع التحدث معها. . ولا بأس في هذا فكل العشاق لهم الحكاية نفسها . . ما الحب إلا مهنة تشتهي تعذيبالإنسان .
صدفةجميلة تجمعه بفتاة أحلامه في مكان يسهل عليه أن يتحدث معها ، يتمالك كل شجاعته ليقفأمامها ليتحدث معها . . بالنسبة له الطاقة اللازمة لأن يختزنها بجسده وقلبه حتى يتحدثمعها تكفي لأن تحطم جبلا منيعا وتنثره لفتات ، وقف أمامها بصمت تام . . قدماه ترتعشانخوفا . . قلبه مغمور في بحيرة الخوف . . عينه تتردد بين النظر في الأرض والنظر في عينيها. . ويال جرأته فقد نطقها . . نطقها بصوت متردد يشوبه الخوف والتلعثم والارتباك .. جمع تلك الحروف المتناثرة ونطقها . . " إنـي أحبـك " .. وأخيرا قالها . . لكنه الآن لا يعرف كلمة أخرى يقولها . . يكفي ما قاله اليوم فقدتعب في القاء المحاضرة لهذا اليوم و بحّ صوته ، لكن الفتاة . . لم نعرف ردة فعلها بعد.
احمرّوجهها وتلعثمت ، " ابتعد عنّي . . لا تكلمني مرة أخرى . . ابتعد وإلا قلتلأخي " وظلت تركض نحو طريق منزلها وهي تبكي بشدة ، هذا الشاب كما لو أنهلوح زجاجي . . فقد سقط أرضا وصار فتاتا متناثرا . . تحطم لما شاهده . . فقد بنى حياتهعلى وهم . . الحزن صار له رفيقا . . تنحّى عن الحياة وصار عشيقا للعزلة والبكاء .. دموع من شدة حرارة حرقتها وجرحها الأليم تحرق خديه بسخونتها ، فهي تحمل في تكويناتهاحقدا على الحياة ، وكرها شديدا لمجرياتها ، وتذمرا دائما من حياة أصبح يرى بأنها ليستإلا واقعا ماديا . . لكن . . لم كانت تبكي حين قال لها بأنه يحبها ؟
حارفي البحث عن هذه الإجابة ، وعن الإبحار في عالم الشك والغموض في الوقت الذي كان يرىفيه أنها لا تبعد سهام نظراتها عنه ، في كل مرة يراها يقرأ الحزن في عينيها . . لكنلا يستطيع الوصول لطريقة لفك الشيفرة التي ترسلها له بنظراتها ، لطالما كان يشعر بأنهاتريد اخباره بشيء ما لكن لا تستطيع وتفضل الهروب منه .
أدركبأنه لن يستطيع الوصول لها في يوم من الأيام ، فهي ربما ليست أكثر من سطر وهمي في كتابيعنى بالحقائق المادية ، لذا فقد حاول اقناع نفسه بمحاولة نسيانها ، ليس أمرا سهلابالنسبة له ، إذ أنه صعب . . صعب للغاية . . كيف ينسى هذه الفتاة . . كيف ينسى نظراتها. . حركاتها . . ابتساماتها . . همساتها . . . إنها صعبة . . لكنه سعى نحو ذلك ، بقييتلاشاها تدريجيا ، وبعد نصف سنة لم تعد له تلك العزيمة المعهودة لرؤيتها .
كانيشعر بقمة الضعف عندما يأتيه الشوق والحنين لحبه الراحل فتذرف عيناه الدموع ، أو حينيكون واقفا بمقربة منها وينظر إليها ، كان يبكي بحرقة زمنا غابرا أراده أن يكون دربهبمن رسم حياته به ، لكن الحياة في بعض الأحيان لا تعطي الإنسان ما يريد . . وإن أعطتهفربما تعطيه ما أراد لكن بعد فوات الأوان . . لتكون حياته كلها مؤرخة بذكريات حزينةتشتهي العذاب لقلبه حين يتذكر ماضيه . . خاصة حين يبدأ بتوجيه اللوم والعتاب لنفسه. . لم فعلت ؟ لمَ لمْ أفعل ؟ كان عليّ القيام بـ . . ما كان عليّ أن . . .
مرّتعليه الآن سنتان وهو يبدو عليه أنه متناسيها ، لطالما شعر بأنه لن يحب بعدها فتاة أخرى، ولو أحب فإن حبه لن يكون بالقدر نفسه الذي منحه لهذه الفتاة ، فهي حبه الأول ، حياتهفي تصوراته كلها مبنية على هذه الفتاة ، فهو ليس من السهل عليه أن ينسى ، وخاصة أنقصته أخذت بمجراها سنينا من الزمن ، عندما يأتيه الشوق لها يمر من جوار منزلها ليلامخافة أن يراه أحد اخوتها فربما تكون هذه الفتاة قد أخبرت أهلها بأنه أراد التحدث معها. . فينظر لمنزلها . . ينظر لنافذة غرفتها . . ثم يخفض رأسه ويميل به لناحية أخرى ويكملالمسير نحو منزله ، حاملا في صدره مشاعر الحزن والأسى والحرقة والحرمان التي في كلليلة تزداد لهيبا في صدره كلما تذكر نظراتها التي لطالما سرقت قلبه وعقله ، هو ضعيفمعها لكن في بعدها عنه يزداد ضعفا ، ليكون جريح الزمن بها ، لكن ما كان يدفعه لتتبعهاورؤيتها أنه مازال لديه بصيص أمل يلتمس فيه أدراك قلب هذه الفتاة ، فما عادت هذه الذكرياتسوى مخيلات تتفنن في احراق قلبه الباكي لكن في الوقت نفسه كانت تعطيه الأمل في بعضالأحيان لأن يبقى حولها ولا يضيعها من يده ويرحل بعيدا عنها ، وعلى هذا الأمل بقي حيا.
يسيرفي هذا الطريق الذي اعتاد أن يسلكه حين يتوجه لجامعته . . ثم . . تداهمه حافلة مسرعة باتجاهه . . دفعة قوية دفع بهالتصطدم الحافلة بمن دفعه بشدة . . ينظر خلفه وسط الخوف والرهبة الشديدة التي حلت بهليرى بمن اصطدمت هذه الحافلة . . " مستحيل ! " . . لقد كانتصدمة عظيمة له . . " لم فعلتِ هذا ؟ لم ؟ " . . فكانت الاجابةبصوت متألم : " لم أكن أستطيع أن أراك تموت أمام عيني من دون أن أستطيعانقاذك " . . كلمات سمعها فوضعت كل معاني الدهشة داخل صدره وسط الحيرةالتي كبلت يديه دون أن يستطيع قول شيءٍ لها . . ثم نظرت في عينيه نظرة عميقة . . فقالت: " أحبك " ثم أغمضت عينيها . . لقد رحلت . . رحلت للأبد. . لقد ماتت بين ذراعيه . . ضحّت بنفسها . . ماتت ليعيش . . أجل لقد كانت هي . . الفتاةالتي عشقها منذ سنين .
رجعلمنزله . . يمشي مشية متمايلة . . كل شيء بناه ضاع في لمحة عين وبشكل شديد القسوة. . الموقف الذي حصل له صدمه صدمة قوية لأبعد الحدود . . لم ينطق كلمة واحد فقد عقدلسانه عن الكلام . . عندما كان بمقربة من منزله ألقا عليه جاره السلام ولم يجب . .وسارعت أمه أمامه لترى ما خطبه . . فوجهه يبدو عليه التلون والذهول والصدمة . . أمسكتبه تهزه بشدة من طفح الكيل وخوفها عليه . . " ماذا حصل ؟ ما بك ؟ تكلملم انت صامت ؟ " وقف لثواني . . ثم إذ به ينهار كجدار عظيم ليسقط ممدداعلى الأرض . . هرعت الناس حوله ثم نقلوه إلى المشفى . . تبين أنه أصيب بانهيار عصبيمن نوع شديد . . أفاق من سباته بعد مضي ثلاثة أيام على الحادثة . . نهض واجتمع حولهالكل بلهفة له . . حامدين الله على أنه استيقض من غيبوبته . . لكن لم يتكلم . . حاولوامعه لكنه لم يستطع التكلم . . أحد أصدقاءه طلب من الجميع أن يخرجوا ليبقى معه علّهيستطيع استنطاقه وسحب الكلام منه . . قال له: " ماذا حصل معك . . تعرف أنني أعرف كل شيء عنك . . هل حصل معك شيء معتلك الفتاة ؟ " انفجر باكيا . . يبكي بكاءً مريرا يحمل في تنهيداته حزناعظيما لم يشهده صديقه فيه يوما . . حار صديقه في ما سيفعله . . " قل ليماذا جرى ؟ " فيجيب باكيا : " لقد رحلت . . لقد ماتت . . ماتتبين يدي وهي تحاول انقاذي من الموت . . صدمتها الحافلة . . لقد ظلمتها كرهتها وحاولتالابتعاد عنها وهي تحبني . . كم أنا أناني " . . ينظر له بدهشة واستغرابفيضمه بشدة لصدره فيقول " ابك يا صديقي . . ابك . . ليس لك اليوم غير الدمعمهونا لك . . ابك يا صديقي . . لم أتخيل في يوم من الأيام أن يحصل مثل هذا الشيء معك. . لم هذه الدنيا هكذا معك ؟ ماذا فعلت لها حتى تكرهك لهذه الدرجة ؟ "فيقف فيشد على كتفيه . . ثم ينظر إلى صديقه الذي هو عبارة عن حطامة محترقة تسمع فيهاصوت التنهدات الحزينة فتدمع عيناه لهذا المشهد الذي حل بصديقه . .
يخرجلوالديه وعليه قسمات الحزن جليه عليه ، لا يعرف كيف سيخبرهم ، هم لا يعرفون شيئا عنهذه الفتاة وعن قصة ابنهما معها . . لكنه وجد طريقة فأخبرهم بما حل بإبنهما ، لم يكنلها غير دعاء الله بأن يفرج هم وحزن ابنهما .
تماثلللشفاء وخرج من المشفى ، لكن حزنه ما زال سكين قلبه وصدره ، حين يتذكر ذاك الموقف المشؤوميزداد حزنا وبؤسا وألما . . فكل ذرة فيه تلومه لأنه لم يحسن الحصول عليها ولم يعلملم كانت تهرب منه ، أقيم العزاء لهذه الفتاة ، فذهب أهل الشاب وأقاربه للعزاء فليسمن المعقول أن لا يذهبوا فقد أنقذت حياة ابنهم ، لكن عائلة الفتاة بقية عاجزة عن معرفةالسبب الذي دفع ابنتهم للقيام بمثل هذا الموقف ، حزنهم كان عظيما لفقدان ابنتهم الغالية، لكن ما كان لهم غير الصبر .
بينماكانت اخت الفتاة ترتب احدى غرف منزل عائلتهم فإذ بها تجد دفترا كبيرا داخل احدى الخزانات، لقد كان دفترا كانت اختها تدون مذكراتها فيه ، قرأت ما وجدت فيه فتفاجأت عن السرالذي أخفته اختها داخل صدرها مدة سنين ، فحملت الدفتر لذاك الشاب وجعلته يقرأ ما فيه، لقد جاء فيه : " أحببت ذاك الشاب منذ رأيته . . أعجبني وأسر قلبي .. لم أستطع أن أزيله من ذاكرتي . . رسمته في كل صورة تخيلتها وتمنيت أن يعيش كل حياتهبسعادة وهناء ، لكني أعرف بأنني مريضة . . والكل يخفي عني أمر مرضي . . وأنه لا يرجىشفائي . . لذا فأنا لن أجعل هذا الشاب اللطيف الذي أحبني أن يتعذبي بسببي . . سأجعلهينساني . . أفضل له من أن يتعلق بي وأرحل في وقت قريب . . لا أريد أن أعذب قلبه الحنون. . فإني أحبه . . أجل أحبه " ، جعلته هذه الكلمات يبكي ويتذكرها بكل حرفقرأه ، لا يعرف لم فعلت هذا لو اخبرته لوجد لها طريقة لعلاجها ، لكنها فضلت الانسحاببصمت كي لا تكون سببا في حزن هذا الشاب الذي أعجبت به وأحبته .
حينيأتي لقبرها يجلس بجواره ، فيلمس القبر ويمسحه بيديه ، فيقول : " سامحكالله . . لم فعلت هذا لو أخبرتني ما بك لكان أفضل . . أردت أن أكون بجوارك لكن ليسبهذه الطريقة . . أردت أن نعيش معا في بيت واحد نجتمع فيه على المحبة والمودة . . لكنالحزن لابد له أن يكون طريقا ومسلكا في كل حكاية من حكاياتي . . اعتدت الحزن في حيايتيفما عاد شيئا جديدا بالنسبة لي فقد جربت أشد أنواع الحزن قسوة . . لكنني مدين لك بالغاليفقد أنقذتي حياتي ، آه . . لو قلت لي بأنك تحبينني . . أه . . لو قلتها ".
بقيعلى ذكرى الفتاة التي سكنت قلبه ، وأبى أن يتزوج اطلاقا ، كل يوم يمر على القبر ويجلبالزهور لهذا القبر ، لكن الحزن لم يخف عنه يوما ، إذ أنه مازال رفيق دربه . . وأخيراها قد أثبت الحب الصادق والحقيقي أنه يغلب جميع الأمور . . ويكون عنوانا بخط عريض لأعظمالتضحيات في سبيل أن يحيا الطرف الآخر .
0 التعليقات:
إرسال تعليق